بالمثـال يتضح المقــال

قال الراوي :

مع مزيد من الصحبة والاحتكاك بأصحاب القلوب ،

تتكشف لك آفاق جديدة ، مع الأيام ، وتلوح لك معارج مشرقة ،

وقد تفتح عينيك على خطأ كنت تعيش فيه ،

وأنت تحسب أنك على شيء.. !!

ذات ليلة كنت أسامر أخي الأثير إلى قلبي ، فلعله لاحظ أني أجادله

في قضية أحسبها واضحة ملء عيني ،

وكان ينظر إليها من زاوية أخرى تماماً ..

فلما رأى أني تعسرت عليه، أو تعسر عليّ فهم ما يريد ..

**

ابتسم ابتسامته المشرقة وقال:

بالمثال يتضح المقال .. الذي أعرفه عنك أنك ماهر في الرياضيات .. !!

وتناول ورقة وأخذ يكتب بسرعة دون أن أتمكن من رؤية ما يكتب..

ثم ناولني إياها..وقال : تأمل ولا تستعجل ..!!

كانت الورقة تحتوي على مجموعة من المسائل الرياضية مثل :

2×3=6 ........ 9×11=99 ..........200÷5=40.........88÷2=44

100+50= 150 .......25+25=50 .....

ورفعت راسي إليه مندهشاً وطويت شفتي وأشرت بعيني على أن لم افهم شيئاً

ضحك وقال :

ركز معي جيداً يا رعاك الله .. قس على هذه المسائل عشرات بل مئات وآلاف في صورها المختلفة ، البسيطة جداً والمعقدة جداً ،

وسواء كنت صاحب بديهية رياضية حادة سريعة بحيث لا تحتاج إلى قلم وورقة ،

أو كنتَ مثلي (!! ) لابد له من قلم وورقة وآلة حاسبة ، ليجمع خمسة مع خمسة ...وتطلع غلط.. !!..j

الذي أريد أن أصل بك إليه من هذا العرض هو ..

أن هذه المسائل الرياضية ، مسائل عقلية بحتة ، حيث لا يتولد عنها مشاعر قلبية ، ولا أحاسيس وجدانية ، ولا عواطف سماوية ، ولا سلوكيات ربانية ترى الحياة نماذج منها تهز الحياة ..!

وأنك مهما كنت خبيراً حاذقاً بمثل هذه المسائل ،

ومهما طال بك المجلس وأنت معها تدير عقلك ، وتصيب معها في كل مرة ، فإنك لن تجد هذه المعاني التي أشرنا إليها تنبجس في قلبك ..

القضية تدور في عقلك ولا تتسرب إلى ساحة قلبك ، لأنها لا تجد لها مكاناً للإقامة هناك ، حتى لو حاولت أن تخرج لها ( كارت فيزا !! ) فلن تقيم هنالك ، لأنها بطبعها لا تطيق ذلك ..!!

قال الراوي :

وضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدمع ، وسألته : ثم ماذا ؟

هات من لطائفك وطرائفك ، فإني على ثقة أن وراءك قضية تريد أن تقررها ..

قال :

جرب أن تجلس ساعة كاملة مع مجموعة من المسائل الحسابية ، ولاحظ خلال ذلك قلبك وما يمكن أن يعتمل فيه من معانٍ ومشاعر وأحاسيس ... ترى هل ستشعر بزيادة إيمان .. أو هل ستجد حالة شوق لله تتولد في غور قلبك ، أو مشاعر حياء منه سبحانه ، أو نحو هذه المواجيد السماوية التي تهب على القلوب فتحييها ..!!؟

اكتفيت بهز رأسي نفياً ..

وتناول كتاباً قريبا منه ، كان يقرأ فيه قبل جلوسي إليه ،

ثم ناولني إياه بعد أن فتح صفحة معينة ، وقال :

والآن اقرأ هذه القطعة ، وهي ليست سوى سطور قليلة معدودة ، فاض بها قلب هذا العالم الرباني في لحظة تنوير وصفاء ..

أعد القراءة وأنت تراقب حال قلبك ، لا اشك إلا أنك ستجد معانٍ رائعة تتولد ، ومشاعر واضحة تتفتح كالزهرة ، ونسمات سماوية تهب على قلبك المتعطش ..

وقد تثمر لك قراءة هذه السطور القليلة أن تتولد فيك همة ماضية وعزيمة صادقة ، وقد ترق معها حتى تنساب دموع عينيك تغسل وجه قلبك ، وقد تستجيش بها مشاعر حياء من الله سبحانه ، وقد تكون سبباً في هبوب رياح الخوف من الله جل جلاله ... وقد وقد ..

وهكذا وهكذا ..

قال الراوي :

كان بودي أن أسوق إلى السادة القرّاء تلك الفقرات التي رشحها لي أخي ، أو مثلها ونحوها ولكني أعلم أن القلوب كأصابع اليد الواحدة لا تستوي ، فما يؤثر في هذا ليس بالضرورة أن يؤثر في الآخر ..

ولهذا أترك المقال بلا تقديم تلك الفقرات ، ليقوم القارئ نفسه باختيار ما يراه مما يمر به إثناء قراءاته المتنوعة، لاسيما في كتب العلماء الربانيين ، كأمثال ابن القيم مثلاً ..

ومن يدري لعلي أخصص يوماً موضوعاً أحشد فيه نماذج متنوعة لهذه القضية .. والله الموفق والمعين ..

قال الراوي :

وأخذت أتابع كلام أخي بلهفة الأرض المتعطشة لقطر السماء ، إن لم يكن وابلٌ فطل .. لكنه في تلك الليلة كان وابلا وغيثاً مغيثا بفضل الله ورحمته وكرمه .

قال أخي بعد أن توقف لحظات :

الذي أريد أن اصل به من خلال هذا العرض كله هو التالي :

لقد رأينا في المثال الأول كيف أن المسائل الرياضية مهما كنت بارعاً فيها ، فإنه لا يترتب عليها مشاعر قلبية سماوية ، وخواطر رحمانية ربانية ، وأحاسيس وجدانية تثمر سلوكا رفيعاً تتهلل له الملائكة ، قبل أن تطرب له قلوب الناس ..!

غاية ما هنالك أنك تصيب ولا تخطئ ، ويقال عنك : أنك بارع ماهر عجيب !!

وقبل أن أطوي هذه القضية .. أنبه :

هذا ليس معناه التقليل من شأن علم الرياضيات ، ما هذا أردنا ، ولا هذا قصدنا ، ولكنا نركز على زاوية معينة في الموضوع ، فانتبه حتى لا تفهم كلامي على غير ما أريد ..!!

ابتسمت وهززت رأسي له وأنا أقول :

اطمئن من هذه الناحية ، أنا اعرف الناس بك ، وأعلم أنك لا تريد هذه القضية ، وأن غايتك أمر آخر .. أنا في لهفة أنتظره .. واصل حديثك المشرق ..

**

قال :

ورأينا في المثال الثاني ما ترتب على قراءة سطور قليلة _ وقد ينسحب هذا على سماع كلمات شجية مؤثرة من قلب تحسبه يفيض بالنور _ ..

والنتيجة التي أريد أن أقررها هي :

أن كثيرين من أبنائنا وبناتنا للأسف الشديد إيمانهم يشبه إلى حد بعيد ، المسائل الرياضية ..!! حيث تجدهم ماهرين فيها ، يصيبون ولا يخطئون ، إذا سألهم سائل عنها ، وفي مقدرتهم المناقشة حولها لساعات ، لكنها للأسف لم تتغلغل إلى شغاف قلوبهم ، حيث لم تثمر لهم دموعاً سخية ، ولم بتولد عنها مشاعر ووجدانات وحلاوة إيمان ، ورقة قلب ، وحالة ذوق قلبي يجعلهم يشعرون بوضوح ، وبلا لبس بلذة عجيبة تفوق كل لذاذات الدنيا _ ولو اجتمعت لإنسان _ لأن هذه المعاني الراقية ، إنما يتحصل عليها الإنسان _ برحمة الله _ حين ينتقل الإيمان من أن يكون أشبه بالمسائل الرياضية ، إلى أن يصبح ( مشاعر ) قلبية حية تفور وتغلي وتهز الوجدان هزا ،..

أخاف على مثل هؤلاء من أن يكونوا ، أو أن يصل بهم الحال ولو بعد حين ، إلى من أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن : إيمانهم لا يجاوز حناجرهم !!! مع أنه أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يكثرون من العبادة جداً ..!!

قال الراوي : كأنما اسمع هذا الكلام لأول مرة ، فأطلقت تسبيحة طويلة وبصوت مرتفع ..

واصل أخي حديثه قائلا :

وإليك الحديث بنصه فإنه مخيف والله لمن تأمله ..

في الصحيحين ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول الناس ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية... "

ليس معنى كلامي أن هؤلاء الأفاضل اليوم من هذا الصنف ، أو أن هذا الحديث ينطبق عليهم ، لكن العبرة واضحة من هذا الحديث ، وفيه شاهد على ما نقول ، أن هناك فريق من الناس تبقى قضايا الإيمان أشبه بالمسائل الرياضية العقلية ، لا يتسرب صداها إلى شغاف القلب فتنيره ، وهنا الخطر ..!!

قلت في حسرة :

أحسب أني من هؤلاء ، لأني أعمل عقلي في كل مسألة أمر بها ، وأحفظ المسائل عن ظهر قلب ، وأستطيع أن أجادل أكبر رأس في البلد !!

لكني فعلا لا أشعر بحرارة إيمان تغلي في قلبي ، على النحو الذي أقرأ عنها أو اسمع ..

نعم هي نفحات قليلة تهب على قلبي بين الحين والحين ، وربما بشكل نادر ..

قال صاحبي :

ابتداء أنا لا أعنيك بكلامي تحديدا ، لكني أخاف عليك ، ثم كونك تشعر هذا الشعور بوضوح ، فهذا دليل على ما نحن فيه ، وكون هذه النفحات تهب بين الحين والحين ، فهذا شيء طيب وجميل ، وعليك أن تستثمره ، ولكن راقب نفسك : هل هذه الفترات متباعدة ... ثم لاحظ كم تلبث في قلبك .. هل تطيل مكوثها فيه ، أم هي عابرة سريعة الارتحال ..

قال الراوي :

وحول هذه القضية الأخيرة بقي أخي يدندن في شجون قرابة ساعة كاملة ....

علينا أن نسأل أنفسنا :

متى كانت آخر مرة دمعت فيها أعيننا بين يدي الله سبحانه ؟

متى كان آخر عهدنا بجيشان مشاعرنا القلبية حياء من الله سبحانه ؟

متى كانت آخر مرة ارتجفت قلوبنا من خشية الله ؟

متى كانت آخر مرة غلت اشواقنا رغبة في لقاء الله ؟

إلى آخر هذه الاسئلة ..

على كل حال ..

هذه دعوة لنفسي وللجميع لنراجع أنفسنا ، ونفتش قلوبنا :

هل الإيمان عندنا من النوع الأول ( الجاف )

أم من النوع الثاني ( الحي الفاعل ) .. وعلى ضوء ذلك ننطلق ..

إن اكتشفنا أننا من أصحاب المائدة الأولى ، فعلينا أن نفزع ، ولابد من تغيير الطعام ، ونعيد ترتيب المائدة كلها ، ونحاسب أنفسنا كثيراً ..!

وإن وجدنا أننا من النوع الثاني.. فلنخر سجداً لله شكرا وحمدا وثناء ودعاء وضراعة أن يثبتنا على ذلك حتى نلقاه وهو راضٍ عنا ..

وبالله التوفيق ..

لقد رأينا في المثال الأول كيف أن المسائل الرياضية مهما كنت بارعاً فيها ، فإنه لا يترتب عليها مشاعر قلبية سماوية ، وخواطر رحمانية ربانية ، وأحاسيس وجدانية تثمر سلوكا رفيعاً تتهلل له الملائكة ، قبل أن تطرب له قلوب الناس ..!

غاية ما هنالك أنك تصيب ولا تخطئ ، ويقال عنك : أنك بارع ماهر عجيب !!
hjjjjjj